الجمعيات الأهلية ورؤية 2030- شراكة استراتيجية أم دور تقليدي؟

المؤلف: عبده خال10.15.2025
الجمعيات الأهلية ورؤية 2030- شراكة استراتيجية أم دور تقليدي؟

منذ إطلاق رؤية السعودية 2030، والتي وضعت هدفاً طموحاً يتمثل في رفع إسهام القطاع غير الربحي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، بات جلياً أن المؤسسات الأهلية تواجه منعطفاً حاسماً يتطلب منها مسايرة أهداف الرؤية الطموحة. وقد أقيم المنتدى الأول لجمعيات محافظات وقرى منطقة مكة المكرمة لإنعاش الحوار حول هذا الدور المحوري، ولكنه في الوقت ذاته أظهر تبايناً كبيراً بين الآمال المعلقة والواقع الملموس. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن اليوم هو: هل المنظمات الأهلية على أهبة الاستعداد لتكون شريكاً فاعلاً في مسيرة التنمية المستدامة؟

تضم منطقة مكة المكرمة ما يزيد على 480 جمعية أهلية، تخدم ما يقارب 691 ألف نسمة في 17 محافظة، وتزخر بعض هذه الجمعيات بإمكانات كامنة، إلا أنها لم تستثمر بالقدر الأمثل. وبالرغم من بروز عدد لا يستهان به من هذه الجمعيات في ميدان المشاركة التنموية، إلا أن دور الكثير منها لا يزال محصوراً في تقديم معونات مالية أو خدمات إنسانية ذات نطاق محدود. وهذا الدور، على الرغم من أهميته، لا يتماشى مع تطلعات رؤية 2030، التي ترمي إلى إرساء دعائم قطاع غير ربحي قوي ومؤثر، يسهم بفاعلية في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ولتمكين الجمعيات من تحقيق هذا التحول الجوهري، يتعين أولاً إعادة هيكلة مجالس إدارتها والتأكد من كفاءتها في تولي هذه المسؤولية الجسيمة. وثانياً، ينبغي التركيز على استقطاب الكفاءات القيادية الواعية بأهمية دورها. فعلى سبيل المثال، لماذا لا تتحول هذه الجمعيات إلى قوة دافعة لخلق الفرص؟ ولماذا لا تدار وفقاً لنموذج الشركات الاجتماعية التي تحقق عوائد مالية يعاد توجيهها نحو مشاريع تنموية تخدم المجتمع بأسره؟

يُحسب للمنتدى أنه سلط الأضواء الكاشفة على العديد من التحديات التي تعيق تقدم القطاع غير الربحي، وفي مقدمتها ضعف الاستدامة المالية والقصور في تبني التقنيات الحديثة. فما زالت العديد من الجمعيات تعمل بإمكانات متواضعة وتعتمد بشكل كبير على التبرعات، مما يجعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية. وعلاوة على ذلك، فإن افتقار الكثير منها إلى استراتيجيات واضحة للتحول الرقمي يحد من قدرتها على التوسع وتعزيز تأثيرها.

ولكن ما يثير بالغ القلق هو أن هذه التحديات ليست وليدة اللحظة، فالقطاع غير الربحي يعاني منذ أمد بعيد من فجوة واسعة بين الطموحات والإمكانات المتاحة. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومة لدعم هذا القطاع الحيوي، إلا أن غياب التنسيق الفعال بين الجهات المعنية يؤدي إلى تداخل الأدوار وتشتيت الموارد، مما يضعف كفاءة العمل ويحول دون تحقيق الأهداف التنموية المنشودة.

إن هذا التشتت المؤسف يحرم الجمعيات من الاستفادة من الخبرات المتراكمة وتوحيد الجهود، مما يجعل تحقيق الأثر المطلوب أكثر صعوبة، ويؤكد الحاجة الماسة إلى وضع آليات تنظيمية محكمة تعزز التعاون وتوجه الجهود نحو الأولويات الوطنية.

لقد شهد المنتدى، وهو المنتدى الأول لجمعيات محافظات وقرى مكة المكرمة، عرضاً لقصص نجاح ملهمة لجمعيات تمكنت من تخطي العقبات وابتكار حلول مؤثرة. وتدل هذه القصص على أن النجاح ليس ضرباً من الخيال، بل هو ممكن التحقيق إذا ما توافرت الإرادة الصلبة والموارد اللازمة. بيد أن السؤال الذي يلح علينا هنا هو: هل يمكن تعميم هذه التجارب الناجحة على سائر الجمعيات؟ الإجابة تتطلب وضع خطة وطنية واضحة المعالم تعيد صياغة دور الجمعيات، بحيث تنتقل من العمل الفردي إلى منظومة متكاملة، يتم فيها توطيد دعائم التعاون بينها على نحو يضمن التكامل المنشود بدلاً من التكرار غير المجدي، مع التشجيع على تبادل الخبرات والمعارف عبر منصات موحدة وبرامج تفاعلية تمكن الجمعيات من التعلم والنمو معاً، بما يحقق أثراً تنموياً مستداماً. لذا، يجب على المؤسسات المانحة أن تضطلع بدور أكبر في دعم الجمعيات الصغيرة والمتوسطة، ليس فقط من خلال توفير التمويل اللازم، بل أيضاً من خلال تقديم التدريب والتوجيه المتخصص.

يتضح جلياً أن القطاع غير الربحي في المملكة بحاجة إلى تحول جذري في أساليب عمله، لمواكبة متطلبات التنمية المستدامة. وهذا التحول يبدأ بتعزيز الاستدامة المالية للجمعيات، حيث يتعين عليها تبني نماذج أعمال مبتكرة تقلل من اعتمادها على التبرعات التقليدية، مع التركيز على توليد دخل مستدام من خلال تطوير مشاريع استثمارية متوافقة مع أهدافها الاجتماعية النبيلة.

كما أن التحول الرقمي بات ضرورة ملحة وليس مجرد خيار، حيث يمكن أن يحدث نقلة نوعية في كفاءة العمل وزيادة الشفافية والمساءلة. وسيكون توفير أدوات وتقنيات رقمية متطورة للجمعيات، عبر مبادرات حكومية موجهة، عنصراً أساسياً في تحقيق هذا الهدف الطموح.

وإضافة إلى ذلك، تعتبر الشراكات الاستراتيجية بين الجمعيات والقطاعين الحكومي والخاص دعامة أساسية لبناء منظومة تنموية متكاملة، حيث لا يمكن للجمعيات أن تحقق أهدافها بمعزل عن الأطراف الأخرى. وحتى تتحقق الاستفادة القصوى من هذه الشراكات، يجب أن يتزامن ذلك مع تطوير رأس المال البشري، من خلال الاستثمار في تدريب وتأهيل الكوادر العاملة في القطاع غير الربحي، للحصول على الشهادات المهنية والتأهيل الأكاديمي المتخصص، لأنها المحرك الأساسي الذي سيقود الجمعيات نحو تحقيق أهدافها بكفاءة وفاعلية.

ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن هذا المنتدى قد فتح الباب أمام الجمعيات، لكنه في الوقت نفسه يحملها مسؤولية جسيمة تتمثل في إعادة التفكير في أدوارها وإمكاناتها، ويضع على عاتقها مسؤولية كبرى، وهي أن تستجيب للتحديات الراهنة وتتحول إلى لاعب رئيسي في تحقيق التنمية المستدامة، أو أن تستمر في لعب الدور التقليدي الذي يجعلها غير قادرة على تحقيق التأثير المنشود.

وثمة حقيقة واضحة للعيان، وهي أن القطاع غير الربحي في المملكة يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، لأن نجاح الجمعيات الأهلية في التحول إلى شريك تنموي فاعل يتطلب رؤية واضحة المعالم وجهوداً مشتركة بين جميع الأطراف المعنية على مستوى المنطقة. ويعتبر المنتدى الأول لجمعيات مكة المكرمة خطوة مباركة في الاتجاه الصحيح، لكنها ليست سوى بداية لصعود سلم النجاح، فالتحدي الحقيقي يكمن في استمرارية هذه الجهود وترجمتها إلى واقع ملموس.

وخلاصة القول، إذا أردنا أن نرى قطاعاً غير ربحيٍ قوياً ومؤثراً، فعلينا أن نؤمن إيماناً راسخاً بأن الجمعيات الأهلية ليست مجرد أدوات خيرية، بل هي محركات تنموية فاعلة يمكن أن تساهم بفعالية في بناء مستقبل مشرق للمملكة، وتحقيق طموحات رؤية 2030.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة